تعريف
الانسجام
الانسجام هو أن يكون الكلام في مفرداته وجمله مناسبا
انسياب الماء في مجاريه السلهلة، متحدرا ليّنًا، بسبب التلاؤم بين كلماته، وجملهِ،
وعذوبة ألفاظه، وجمال تموّجات فقراته، وخلوّه من التعقيد والتنافر، وخلوِّه من كل
ما يَنِدُّ عن النطق، ويَنْفِرُ مِنْهُ السمع.
وإذ قوي الانسجام في النثر جاءتْ قراءتُه موزونة دون
تَرَقُّبٍ ولا قَصْدٍ ولاتكلف، بل يندفع بتلقائية الذوق الأدبي، والحسّ الجمالي
المرهف.
والقرآن المجيد كله منسجِم، قذ يسَّرَه اللغ للذكر،
وفيه فقرات موزونة وزنًا شعريًّا، وهي في مواضعها من القرآن الكريم ليستْ بشعر،
ومن هذه الفقرات الموزونة ما يلي:
1. فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ
فَلْيَكْفُرْ، شطر من (الطويل).
2. وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعيُنِنَا، شطر من
(المديد)
3. فَأَصْبَحُوا لَا تُرَى إِلَّا
مَسَاكِنُهُمْ، شطر من (البسيط)
4. وَيُخْزِهِمُو وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ
وَيَشْفِ صُدُرَ قَوْمٍ مُؤْمِنِيْنَ، َيُخْزِهِمُو: على قراءة من يضُمُّ الميم مع
الصّلّة. هذا بيت من (الوافر).
5. وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إلَى صِرَاطٍ
مسْتَقِيم
متفاعل-
متفاعل- متفاعل- متفاعل-
6. دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهاَ #
وَذُلِّلَتْ قُطُونُهَا تَذْلِيْلًا، هذا بيت من الرجز.
ائتلاف اللفظ مع اللفظ وائتلافه مع المعنى
· من المحسنات البديعيّة اللفظية أن يكون
اللفظ مع اللفظ المجاور له في الكلام مؤتلفين، وهذا يلزم منه أن تكون الألفاظ في
الكلام متآلفة يلائم بعضها بعضها.
· ومن الائتلاف في الألفاظ أن ينتقى فى
النص من الكلمات ما يكون من نوع من الكلام واحد كأن تكون الكلمات من نوع الغري، أو
من نوع المتداول، أو مما يلائم العامّة، أو مما يلائم الخاصّة، أو مما يلائم
مخاطبين معيّنين ذوي تخصّصِ واحد من تخصصات المعارف والعلوم والصناعات والمهن.
· ومن المحسنات البديعية اللفظية أن تكون
ألفاظ الكلام ملائمة للمعنى المراد منها، ومن هذه الملائمة أن يحكي صوتُ الكلمة
صوتًا يوجد فيما دلت عليه، مثل (حفيف) لحركة أوراق الشجر، و (فحيح) لصوت الأفعى، و
(صَرْصَرَ) لصوت الريح الشديدة، والهمز للصوت الذي يصدر عند إقفال القفل أو تحريك
المزلاج في (مؤصدة) و (سلسبيل) لصوت الماء الذي يجري بيسر، و (خرير) للماء النازل
في شلّال، إلى أمثلة كثيرة.
1. وإذا كان المعنى جزلا اختيرت له ألفاظٌ
جزلةٌ تُلائمه.
2. وإذا كان المعنى رقيقًا اختيرت له ألفاظٌ
رقييقة تلائمه.
3. وإذا كان المعنى خشينًا اختيرت له ألفاظٌ
خشينةٌ تلائمه.
4.
وإذا
كان المعنى غريبا اختيرت له ألفاظ غريبة تلائمه.
5.
وإذا
كان المعنى متداولا اختيرت له ألفاظ متداولة تلائمه.
6.
وإذا
كان المعنى متوسطا بين الغرابة والتداول اختير له ما يلائمه.
7.
وإذا
كان المعنى فخما اختير له ألفاظ مفخمة تلائمه.
وهكذا،
فألفاظ الحب والغزل، غير ألفاظ العتاب والتثريب، وألفاظ المدح غير ألفاظ الهجاء.
إنه
ليس من المستحسن في المدح أن يقال: ثقيل الجود، ولا أن يقال في الغزل: ثقيل الحب،
أو عنيف الهوى، ولا أن يقال في الإرهاب: لطيف العبور نافذ الإرادة، إلا في مخاطبة
لماحي الذكاء، وعلى سبيل الإشارة، إلى غير ذلك من اختيار ألفاظ غير ملائمة للمعاني
التي يراد التأثير بها.
أمثلة:
المثال
الأول: قول الله عز وجل في سورة (يوسف/ 12
مصحف/ 53 نزول) يحكي ما قال أولاد يعقوب عليه السلام بشأن يوسف عليه السلام:
{قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا
أو تكون من الهالكين{.
في
هذ النص من الائتلاف جمع اللفظ الغريب مع اللفظ الغريب، وبيانه "الحرض"
في اللغة هو الذي أضناه الحزن والعشق، فهو به شديد المرض، وهذا اللفظ من الألفاظ
الغريبة، وكان من فنية جمع الغريب مع الغريب اختيار أغرب ألفاظ القسم، وهي
"التاء" فإنها أقل استعمالا وأبعد عن أفهام العامة من القسم، بحرف
"الباء" أو حرف "الواو"، واختيار أغرب صيغ الأفعال التي ترفع
الاسم وتنصب الخبر من أخوات "كان" وهو فعل "تفتأ" وكان من
الممكن اختيار فعل: "ما تزال" فهو أقرب إلى الأفهام، وأكثر استعمالا من
فعل: "ما تفتأ" وهو بحذف "ما" منه أشد غرابة.
وهكذا
رأينا أن من حسن الاختيار في نظم الكلام اختيار الألفاظ المتلائمة في الغرابة،
توخيا لحسن الجوار كما يجمع في الحفل من الناس كل صنف من صنفه.
المثال
الثاني: قول الله عز وجل في سورة (النحل/ 16
مصحف/ 70 نزول):
{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من
يموت بلى وعدا عليه حقا ولاكن أكثر الناس لا يعلمون{.
ألفاظ هذه الآية كلها
متداولة لا غرابة في كلمة منها، فكانت متلائمة حنسة التجاور.
المثال
الثالث: قول الله عز وجل في سورة (هود/ 11 مصحف/
52 نزول):
{ولا تركنو?ا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار{ (الآية:113).
في
هذا النص تلاؤم بديع بين اللفظ والمعنى المراد، وبيانه أن الركون إلى الذين ظلمو
نوع من الميل إليهم والاعتماد عليهم، دون انغماس معهم في الظلم، فلاءم هذا المعنى
أن يختار في بيان العقاب لفظ {فتمسكم النار{ لأن المس فيه معنى ملاصقة النار دون
الانغماس فيها.
أي: فعذاب من يركن إلى
الظالمين هو من نوع عذاب الظالمين، لكنه دونه في الكيف والكم، إنه للراكنين مس،
لكنه للظالمين انغماس وحريق.
(1/852)
المثال
الرابع: قول الله عز وجل في سورة (البقرة/ 2
مصحف/ 87 نزول):
{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت
وعليها ما اكتسبت...{ (الآية:286).
1. جاء في هذا النص تلاؤم بين اللفظ المختار
والمعنى المراد به، إذ جاء فيه التفريق بين ما يدل على فعل الحسنات وما يدل على
فعل السيئات، فاختير فيه فعل ( كَسَبَ ) الذى يستعمل في مكاسب الحياة الدنيا من
مال و غيره مرادا به فعل الحسنات و الخيرات، لأنها ثروة يدخرها الانسان، فتنفعه في
دنياه و أخراه، و ان شق فعلها على نفسه.
و
اختير فيه فعل ( اكتسب ) الذى فيه معنى تكلف حمل العبء مرادا به فعل السيئات و
المعاصى و الآثام، لأنها أوزار و أحمال ثقلية تأتيه بأنواع من العذاب في دنياه و
أخراه، و ان جلبت له لذّة عاجلة، و هان فعلها على نفسه.
المثال
الخامس : قول الله عز وجل في سورة ( الشعراء/ 26
مصحف/ 47 نزول ) بشأن ادخال أهل جهنم فيها :
( فَكُبْكِبُوْا
فِيْهَا هُمْ وَ الْغَاوُونَ 91 وَ جُنُوْدُ اِبْلِيْسَ أَجْنَعُوْنَ 92 ).
جاء
في هذا النص اختيار لفظ ( كبكبوا ) ملائما تماما للمعنى المراد منه، و ذلك لان فعل
: ( كب ) يدل على المرة الواحدة، المعنيون لا يجمعون و يكبون كبه واحدة. أما فعل :
( كبكب ) فهو يدل على معنى الكب المتكرر المتتابع، و هو أمر تدل عليه الصيغة التى
فيها تكرير للحروف كدلالة ( الوسوسة ) على التكرير، و دلالة ( السلسلة ) على تتابع
الحلقات، و دلالة ( الصلصلة ) على تكرار الصوت، كصوت الجرس.
ان الكبكبة الجماعية
المتكررة أدل على الإهانة، و اكثر ملائنة للمعنى المراد.
المثال
السادس : قول الله عز وجل في سورة ( طه/ 20 مصحف/
45 نزول ) :
( وَأْمُرْ أَهْلَكَ
بِالْصَلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا 132 ).
جاء في هذا النص اختيار
كلمة ( اصطبر ) ملائما للمعنى المراد، و هو تكلف الصبر، بمغالبة النفس.
ولو اختير لفظ ( اصبر )
لما استفيد هذا المعنى.
الى غير ذلك من أمثلة
كثيرة.
خاتمة :
لذواقي
التلائم والائتلاف بين الكلمات من كبار البلغاء حس أدبي رفيع، قد لا يرقى اليه
غيرهم من محبي الأدب، و عشاق الكلام البليغ من شعر او نثر.
و أذكر بهذه المناسبة
ما رواه الواحدي في شرح ديوان المتنبي أن المتنبي لما أنشد سيف الدولة قوله فيه :
وقفت و ما في الموت شك
لواقف / كأنك في جفن الردي و هو نائم
تمر بك الأبطال كلمي
حزينة / ووجهك وضاح و ثغرك باسم
انكر
عليه سيف الدولة تطبيق عجزي البيئين على صدربهما، و قال له : كان ينبعى ان تجعل
عجز الثاني عجز الأول، و العكس، و انت في هذا مثل امرئ القيس في قوله :
كأني لم أركب جوادا
للذة / و لم انبطن كاعبا ذات خلخال
و لم اسبأ الراح الكميت
و لم أقل / لخبلسي كري كرة بعد اجفال
قال
سيف الدولة : ووجه الكلام على ما قاله العلماء بالشعر، ان يكون عجز البيت الأول
للثاني، وعجز البيت الثاني للأول، ليكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر، و يكون
سباء الخمر مع تبطن الكاعب.
فقال
ابو الطيب : ان صح ان الذى استدرك على امرئ القيس هذا اعلم منه بالشعر فقد اخطأ
امرؤ القيس و أخطأت انا، ومولان الأمير يعلم ان الثوب لا يعرفه البزاز معرفة
الحائك، لأن البزاز لايعرف الا جملته، و الحائك يعرف جملته و تفصيله، لانه اخرجه
من الغزلية الى الثوبية، و انما قرن امروؤ القيس لذة النساء بلذة الركوب للصيد، و
قرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الاعداء.
و
أنا لما ذكرت الموت في أول البيت اتبعته بذكر الردي لتجانسه، و لما كان وجه
المنهزم لا يخلو من ان يكون هعبوسا، و عينه من ان تكون باكية، قلت : ووجهك وضاح
وثغرك باسم / لاجمع بين الاضداد في المعنى.
المراجع:
القرآن
الكريم
عبد
الرحمن حنبكة الميدانى، البلاغة العربية أسوسها وعلومها وفنونها، (دمسق:
دارالقلم، للطباعة والنشر والتوزيع، دون السنة).
Tidak ada komentar:
Posting Komentar